الاثنين، 19 مارس 2012

رسالة لأمير المؤمنين هارون الرشيد


خذي من القلب ماتبغين واعطيني
ومتعيني بمنثورٍ وموزون

حييت ذكراك في شوقٍ فلاتقفي
مكتوفة يا منى قلبي وحييني

مازلت أغرس آمالي وأحرسها
ولم تزل شفة الذكرى تناجيني

أنام والصمت مربوط على شفتي
والذكريات بثوب الليل تطويني

من أين أخرج هذا الليل يسجنني
في صمته وعن الأحباب يقصيني

بوابة الفجر مازالت مغلَّقةً
فكيف أفتحها والقيد يؤذيني

يامن على وجهها الميمون بارقة
من الصفاء تريني صدق تخميني

بي لهفةٌ ملكت قلبي وقد بعثت
كوامن الحب تسري في شراييني

وهذه البسمة الخضراء تحملني
على الوداد وبالأحشاء تؤويني

أسير في موكب الأيام ملتحفاً
للحب ,والأملُ البراق يدعوني

أسير والدرب مصروف بروعتها
وعبق أزهارها الزاكي يحييني

أظل أضحك منها حين ترمقني
بنصف مقلتها والضِّحك يبكيني

**
سافرت والليل أعمى والهموم لها
توثُّبٌ وسهام الخوف ترميني

فما مررت على دربي بمرحلةٍ
إلا وجدت صُداء الشوق يحدوني

ولا توقَّفت في سيري على شغفٍِ
إلا رأيت السهول الخضر ترزوني

وأدهشَ الدرب تصميمي فأسلمني
زمامه ودعا الأحجار أن ليني

لانت فأحسست أن الأرض مفرشةٌ
من الحرير وأني غير مغبون

حتى غدا الحزن سهلاً والرمال غدت
زهراً ونبع الأماني البيض يسقيني

مضيت لا الليل تفنيني غوائله
ولا المخاوف والأوهام تفنيني

وسرت في روضةٍ لا الغيض أخلفها
ولا سمعت بها صوتاً لمأفون

إذا ظمئت سقتني من منابعها
وحين يقسو عليَّ الجوع تغذوني

يا روضة المجد مالي عنك منصرفٌ
وكيف لي ونسيم المجد يشفيني

بك انشغلت وبعض الناس منشغلٌ
عنِّي بتحسين أقوالٍ وتهجين

أما ترين اشتياقي, فاجعلي أملي
يخضرُّ فيك ولا تستخلفي دوني

إني أرى حائطاً للدهر يحجزني
عمَّا أريد فأرجو أن تعينيني

يا حائط الدهر إن أخفيت عن نظري
أشخاص قومي فذكراهم توافيني

أظلُّ أذكر ماضينا فيملؤني
زهواً ,ورائحة الأمجاد تذكيني

وها أنا اليوم تدنيني مخيِّلتي
من الرشيد وأنغامي تجاريني

إن كان واقع هذا العصر يؤلمني
فإن سالف أمجادي يسلِّيني

**
أبا الأمين أبا المأمون يحملني
إليك شوقي وبعد عنك يدنيني

بيني وبينك أعوامٌ مكوَّمةٌ
تظلَّ ساخرةً من حائط الصِّين

وبيننا يا أبا المأمون افئدةٌ
تغريك بي, وبما تغريك تغريني

ظلَّت تزيد سعار الشَّكِّ في خلدي
حتى رأيتك في صفِّ ابن زيدون

تقضي لياليَك الحمراء منشغلاً
بنشوة الكأس عن ملكٍ وعن دين

قصائدي يا أبا المأمون لاهثةٌ
في درب ظنِّي, وظنِّي لا يداريني

لكنها لو درت مثلي بما حملت
من الهموم لفرَّت من دواويني

أبا الأمين أبا المأمون معذرةً
إذا نكأت جراحاتي بسكيني

إنِّي أتيت وعين الشَّكِّ ترمقني
وقد صبرت عليها صبر ذي النُّون

حتَّى سمعت نداءً لست أعهده
وكنت أصغي وكان الصَّوت يأتيني

قالت زبيدة: ما أنبتُّ عاطفتي
إلا على روضةٍ في صدر هارون

وهبته كلَّ إحساسي وصرت له
ريحانةً دونها كلُّ الرَّياحين

غنَّيته لحن أشواقي فما سمعت
أذناه تلحين أشواقٍ كتلحيني

أجريت نهر حناني في رجولته
فصار ألين في كفِّي من اللين

ما كان يبني على صدقي مخاتلةً
ولم يكن بخفيف الفعل يؤذيني

ما كان يحرق في نيران مخدعه
غيري ولا كان يرضى أن يجافيني

يفني اشتهاء العذارى صدق عفَّته
ولم يكن في مدى الأشواق يعزوني

ما كان يغضي على ذلٍّ ومنقصةٍِ
ولا ينام على بوَّابة الدُّونِ

ولا يقرُّ بظلمٍ في مخاصمةٍ
ولا يهاب عدوَّاً في الميادينِ

هو الرَّشيد يرى في الحجِّ تبصرةً
وحين يغزو ترى إقدام ميمون

**

هنا جلست,فرجلي لا تطاوعني
على الوقوف ونار الحزن تشويني

إنِّي رأيتك بركاناً يثور على
أهل الضَّلالة يزري بالبراكين ِ

إنِّي رأيتك ذا عطفٍ ومرحمةٍ
تأسو جراح اليتامى والمساكين ِ

فهل أصدِّق أوهاماً يهرِّبها
قومٌ يبثُّون وسواس الشَّياطين

كسرت عكاز أوهامي وجئت على
ظهر المدى .. وبكفِّي غصن زيتون

كذبت كلَّ الدِّعايات التي اشتعلت
في عالمٍ بخفيف الفعل مفتون ِ

كم من يراعٍ تصبُّ السم ريشته
كأنه خنجرٌ في كفِّ مجنون

أبا الأمين أبا المأمون ذاكرتي
مشحونةٌ ويراعي صار يعصيني

كم صاحبٍ كنت مغروراً ببسمته
يبيعني في هوى الدُّنيا ويشريني

إذا فرحت بشيءٍ لا يهنِّئني
وحين أفقد شيئاً لا يعزِّيني

يا صاحبي هذه الدُّنيا مودعةٌ
ولو ملكت بها أموال قارون ِ

**

بنيت بالقلب للإيمان مملكةً
نشرت فيها الهدى والله يحميني

أأذبح الشعر قرباناً وتضحيةً
إنِّي لأنكر تقديم القرابين ِ

**

في عصرنا يا أبا المأمون طائفةٌ
تجيد من حولنا رقص الثعابين

لها عيون على الأحباب مبصرةٌ
لكنَّها لا ترى إجرام رابين

أوَّاه لو كنت تدري ما دهى وطني
وكيف مُدَّت إلينا كفُّ صهيون

وكيف صارت رؤى لبنان غائمةً
وكيف شرِّد شعبٌ في فلسطين

وكيف لاكت ربا الأفغان حسرتها
وأغرقت صمتها في نهر جيحون

وكيف صار الخلاف المرُّ عادتنا
وصار يضحك منَّا كلُّ مأفون

وكيف صار هزال القول يصرفنا
عن الأصيل وعن صدق المضامين ِ

حتَّى قصائدنا صارت معلَّقةً
على مشانق أنصاف المجانين ِ

إنِّي أغار على الإسلام من بشرٍ
يهرِّبون إلينا فكر لينين ِ

أغار يا وارث الأمجاد,إن دمي
يغلي على أمَّتي والجرح يضنيني

ولا تسلني أبا المأمون عن بلدٍ
حكَّمت في أرضها خير الموازين

بغداد يا وارث الأمجاد أرَّقها
حزنٌ وباتت على ضعفٍ وتوهين ِ

كأنَّها ما رأت مجداً ولا أمنت
أيام عهدك يا تاج السَّلاطين

سمَّيت نقفور كلب الرُّوم من شرفٍ
ونحن من ضعفنا نغضي لشمشون ِ

**

وننفث الهمَّ في سيجارةٍ خبثت
ريحاً وننفثه في ثغر غليون ِ

كأننا من قضايانا على حمرٍ
مذعورةٍ أو على مثل الطواحين

وكيف ينجح قومٌ في تناحرهم
عنوان ذلٍّ ويا شر العناوين ؟؟

**

أبا الأمين أبا المأمون كلًُّ يدٍ
شلَّاء في عصرنا صارت تباريني

أنزلت رحلي بأرض الذلِّ فاندفعت
إليَّ أسواط أهل الذِّل تصليني

أرى وجوهاً وأجساماً مرفَّهةً
ولا أرى فارساً بين الملايين

إذا بنى المرء فوق الرَّمل منزله
فلا يلومنَّ إلا عقل مجنون

يا راكبين حصان الوهم لن تصلوا
إلَّا إلى نفقٍ في الوحل مدفون

ولن تذوقوا من الدنيا حلاوتها
إلَّا بتضليل أفكارٍ وتهجين

قد ينجب العبد حرّاً يستقيم على
نهج الصَّلاح ويحيي رفقة الدِّين

**

أبا الأمين أجبني, إنَّ بي شغفاً
إلى حديثٍ من الماضي يواسيني

قال الرَّشيد وقد وارى ابتسامته:
الله يعلمني والله يجزيني

إن أسرف القوم في التَّشكيك وانتهجوا
درب الأكاذيب فالرحمن يكفيني

لو كان في النَّاس إصغاءٌ على رشدٍ
ما أقسم الله بالزَّيتون والتِّينِ

 
دكتور/ عبد الرحمن العشماوي
 ِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.